أبواب وشرفة.
في الجامعة، حيث المجتمع المصغر، تكون العلاقات أكثر انفتاحا وأقل تحفظا حيث تظهر المشاعر على صورتها الأولية غير المشوهة لسببين، أتعرفونهما؟! أجال نظره بين الحضور من فوق إطار نظارته، ثم أكمل قائلا: الأول أن سن المراهقة والصبا فيه الكثير من المشاعر و الجنوح والانطلاق و الثورة و عدم التحفظ في التعبير سواء كان هذا التعبير بالصمت أو الكلام أو الغضب أو الضحك أو أي تعبيرات كلامية أو جسدية أخرى.
و بكل بساطة-أشار بيديه بشكل مفتوح وأومأ بجسده إلى الأمام- فان الطالب يكون أكثر تحررا من الناحية الاجتماعية والضغوط والمسؤوليات ، على عكس الحياة العملية التي يتم التعامل فيها بين الناس وخاصة في نطاق العمل في إطار من التعديل المستمر للسلوكيات أو التصرفات.
هكذا تحدث الأستاذ شمس في محاضرته مثيرا الموضوع للنقاش ، و لما كان عبد الباسط من طلابه فإنه بطبيعتة المنفتحة جدا كان السبّاق للتعليق و بشكل مباشر أثار الكثيرين بمن فيهم الراكزة آلاء.
عبد الباسط : بمعنى واضح أنت تقول تعديل بمعنى تغيير و بمعنى إظهار ما يخالف حقيقة المشاعر أي أن الكذب و النفاق سمة البالغين أو الكبار أمثالك ، وعليه أوافقك على هذا الرأي!
الأستاذ شمس (مبتسما): مع تجاوزي لتعريضك بي، أنا لم أقل ذلك بالضبط.
آلاء(تتكلم بعد الاستئذان):لا أقر أسلوب عبد الباسط الهجومي، ولا أوافق الأستاذ شمس على أن الطالب عامة متحرر اجتماعيا، فنحن شعب متدين ومحافظ ونحن كطلاب من هذا الشعب.
الأستاذ شمس:لم اقصد التحرر من زاوية التساهل القيمي والخلقي، وإنما من زاوية اليسر في استخدام وسائل الاتصال المباشرة بالتعبير عن المشاعر دون التوقف للتفكير ولو لدقيقة، والقيام بتعديلها أو إعادة صياغتها حسب الموقف. يوجد في عقل الإنسان خيال جامح وأبواب وشرفة تطل على الآخر، وترى الجديد وترى المختلف، وتعبر الحواجز وتعبر بسلاسة ورحابة .
آلاء (تحاول أن تسبق ردة فعل غيرها فتبادر في الرد): هل تقصد أبواب وشرفة المشاعر...مثل مشاعر الخوف أو الكراهية أو الغضب أو الاتهام أو الخجل أو ...
الأستاذ شمس: و مشاعر المحبة و التقارب و التباعد ووو.........
وهنا ثارت في الفصل همهمات و أصوات هامسة، و كان في خضمها طالب كثير التجهم يعتبر الابتسامة أو الضحك دلالة على الانحراف المفضي إلى الردة؟! لا سيما أن صلاح الدين الأيوبي لم يكن يضحك لسبب احتلال فلسطين أبدا كما كان يردد أمام زملائه، فقال صهيب وهذا كان اسمه وبغضب : ماذا تقصد بمشاعر المحبة؟ هل تريد أن تعلمنا في هذا الدرس العشق و الغزل و التدله والفجور؟ و هل تريد أن تخرجنا عن الشريعة الإسلامية السمحاء؟
الأستاذ شمس (وإمارات وجهه تشي بالاندهاش): استغفر الله، ما هذا الاتهام المباشر بالخروج عن الدين....ومع ذلك، أرأيت ، هذا ما كنت أتحدث عنه، هل فهمت؟!. بينما صهيب المتجهم استمر متجهما ويعبر عن عدم فهمه، أكمل الأستاذ شمس قائلا: تتحرر المشاعر بمعنى أنها تنطلق بيسر وسهولة متجاوزة الأبواب والحواجز ، و قد تصل إلى مرادها أو إلى ما هو أبعد كما حصل منك ، وقد تصل لمرادها ولو بالحلم....
عبد الباسط: ماذا نفهم من هذا الكلام بالضبط، ما المغزى، إلى أين تريد أن تصل بنا؟
الأستاذ شمس (وهو يتحرك بين الطلاب في الفصل جيئة و ذهابا ) و ما أن أنهى عبد الباسط سؤاله حتى واجهه مباشرة، و قال: هذا ما أرغب بان تستنتجوه كفائدة للحوار، فكروا كثيرا وتأملوا! تعلموا التفكير بهدوء والتأمل.
كانت آلاء ذات الوجه الصبوح والحجاب المحتشم والثبات قد انشغلت بالاتصال مع زميلتها من خلال الرسائل القصيرة عبر الجوال فلم تنتبه إلا و الأستاذ شمس في مواجهتها ، فجفلت ثم أغلقت الجوال حيث أدركت خطأها وقالت: آسف بيسر.
تبسم الأستاذ شمس وشد ربطة العنق قليلا، و قال أن السؤال مازال مطروحا حتى المحاضرة القادمة.
قام عبد الباسط ليفتح باب الفصل ويخرج حيث انتهاء المحاضرة ، فلم يستدل على الطريق المعتاد ؟! حارت نظراته في الخارج، خارج الباب، ونظر خلفه فإذ بالطلبة ينظرون بترقب من وراء نظره.
هل مشى الأستاذ شمس إلى مكتبه و لملم أوراقه ومسح اللوح؟!و رهل فع يده ملقيا التحية على طلبته معلنا انتهاء الدرس؟! وهل دخل في الجدار ليخرج بخارا ؟! هل هذا ما رأيته أم أنني أهذي ؟! هكذا حدث عبد الباسط نفسه.
خرج عبد الباسط من الفصل، فالدرس انتهى أو هكذا بدا، وكان لا بد من الخروج، فأُدخل بلا خيار في غرفة أخرى متداخلة مع أخرى إلى ساحة صغيرة أنيقة تضم كراسي وثيرة عالية الظهر، ومجموعة من الطلبة بلا عيون تأكل جالسة، و منصة على يسارهم يقدم من خلالها الطعام والشراب وكأنها مطعم في مطار كبير.
استغرب الطلبة وفزعوا من ذلك ، فلأول مرة يرون هذه الغرف الكثيرة، وهذا المكان الغريب، وهؤلاء الطلبة بلا عيون، وفي جامعتهم، ومنها خرجوا إلى شرفة فسيحة جعلت من طالبة من الطالبات تصرخ قائلة: ما هذا؟! إنها شرفة بمساحة رام الله.
كانت الشرفة تطل من الطابق الرابع عشر على شاطئ بحر كبير، أكبر من بحر غزة وبحر يافا ، يعج بالنزلاء، كانت الدهشة كبيرة إذ لم يسبق لطالب فلسطيني -أو طالبة- في الضفة الغربية أن رأى بحرا هذا أولا ، و ثانيا من أين جاء هذا البحر أصلا؟! و جامعة بيرزيت لا تطل إلا على أودية خضراء و مجموعة تلال ؟!
انشداه و استغراب ، فرح غامر ممزوج بالتوجس، خوف و أمل هي مجموعة المشاعر التي اختلطت مرة واحدة على مجموع الطلبة و منهم صهيب المتجهم الذي سارع للقول إن غضب الله يحل بنا بسبب آثامنا و خروجنا عن الشريعة السمحاء .و قال خطيبا في الجمع المرتبك: إن ما يحصل لنا الآن يعطي دلالة أكيدة على أن الخلافة قادمة والإسلام هو الحل .
لم يستطع معظم الطلبة فهم العلاقات بين ما يقوله صهيب و بين ما يحصل لهم، إضافة لتناقض كلامه أصلا وكأنه يحفظ شعارات يرددها كالببغاء بلا وعي أو تفكير، و مع ذلك تشددت مجموعة صغيرة من الطلبة تدافع عن رأيه هذا.
صرخ عبد الباسط: انتم في ايش و نحن في ايش ؟ ما هذا الجدل حيث لا ينفع ، و ما هذا التخريف حيث يجب تحكيم العقل، أنظروا إلى ما يحصل لنا وفكروا فيما يحصل على أرض الواقع .
ثم ضحك بصوت عال فلم يستطع أن يعبر عن استغرابه من المشهد إلا بذلك ، وتحلق حوله مجموعة من الطلبة اخذوا يتبادلون النكات متناسين حيرة المكان.
آلاء رأت بحفظ الشعارات والتشدد لها دون وعي قدرة للمسيطِر على التحكم بعقول وقلوب الناس وتوجيهها نحو ما يريد كما تفعل التنظيمات الاسلاموية التي تحتكر الحقيقة وتضمن الجنة وتعلن الصواب بين جوانح قادتها فقط ، ما يعني أن يسر وسهولة التعبير عن المشاعر كما قال الأستاذ شمس مدخل استغلال المهيمن أكان شخصا أو حزبا أو اعلانا على عقول الطلبة وتوجيهها نحو الصحيح أو الخطأ، نحو النور أو الظلمة، ما يحتاج منا دوما إلى التفكر والتعديل المستمر للأفكار والمواقف.
آلاء و جدت في الحوائط المحيطة بمساحة الشرفة الواسعة بابا قريبا، قررت بعد تردد قصير أن تفتحه ففعلت وانطلقت مسرعة وتلاشت ، و تبعها معظم الطلبة الذين تخلى قسم منهم عن كتبه وعن صهيب المتجهم، و دلفوا وراءها.
خرج الطلبة من باب الفصل إلى متاهة من الغرف فمطعم فشرفة بمساحة رام الله في الطابق الرابع عشر تطل على بحر ثم إلى الشارع العام من خلال باب قريب.... فتكاثرت الأصوات و التساؤلات واختلفت المشاعر و قادت آلاء الجمع تسير به مبتسمة بين المحلات التجارية الواضحة ليجدوا أمامهم وإلى يمين الشارع فقط ، ماذا؟ ماذا تتوقعون؟ .
إنها مجموعة من العربات الخشبية و كانت هذه العربات مصطفة بالمئات على جانب الشارع الذي لا يظهر منه إلا يمينه، و الناس يركبونها بالعشرات فتنزلق بسهولة على الجانب الأيمن من الشارع حيث لا طرف آخر بالشارع أصلا .
قررت آلاء الركوب فتسلقت العربة، و تبعها الآخرون، ليس كلهم، الذين كانوا بعرباتهم المرتفعة هذه ينزلقون بسلاسة......
رغم أن العربات بلا عجلات إلا أنها كانت تسير بتوازن عجيب ، بل وبها تجاوزوا زوايا الشارع دون اصطدامات أوصلتهم إلى ساحة، فناء كبير، مخصصة لبيع الأقمشة.
نزل الركاب المندهشون من عرباتهم و انطلقوا في اثر أصوات موسيقى تبين أنها لاحتفال مخصص للمطر، نعم للمطر،ولم لا نحتفل بالمطر! هكذا حدث عبد الباسط نفسه، وماذا أجمل من المطر!
ما أجمل هذا الاحتفال الذي يقيمه تجار الأقمشة الملونة كعقولنا وأفكارنا للمطر سنويا ، فيرقصون و يغنوّن ويعبرّون بيسر اجتماعي عن مشاعرهم كالأطفال أو كطلاب الجامعة، إنهم يعبرون عن حبهم للحياة مثلنا نحن ، نعم مثلنا نحن، وصرخ وديع عاليا قائلا ومكررا: لقد فهمت لقد فهمت؟! نحتاج أن نفتح الأبواب المغلقة في عقولنا لنطل من الشرفة حيث نحتاج أن نكون أطفالا أحيانا فنعبر بيسر كما نحتاج أن نكون عقلاء في أحيان أخرى فنعدل ونغير في آرائنا ومشاعرنا ، وصحا من غفوته في الفصل.
أدار الطلاب وجوههم نحو عبد الباسط بدهشة، والتفت إليه الأستاذ شمس من أول الفصل- فلم يتحول بخارا كما حلم عبد الباسط- وكان منشغلا يكتب بعض الجمل على اللوح، وقال له: مالك يا عبد الباسط هل عدت لأحلامك المفتوحة حتى في الفصل، وعلى كلّ إن كنت فهمت فهذا المطلوب، و سارع إلى التغيير .
الكاتب بكر أبوبكر