أشد صلابة من الجبال
أفرزت انتفاضة الأقصى صوراً أخرى للتضحية تدل على مدى الصلابة التي تحلى بها كثيرون ممن عاشوا أحداث الانتفاضة، وتظهر ميزة التحمل والثبات والقدرة على المواصلة بالرغم من الجراح العميقة والآلام المبرحة..
وبمتابعة أحداث الانتفاضة نجد أمثلة رائعة في الصبر والصمود، ونمر على كثير من المصابين فنلمس الاطمئنان والرضا، ونحس بالمعنويات العالية، بالرغم من أن البعض من المصابين ستبقى جراحاتهم شاهدة وللأبد على مدى الوحشية التي تعامل بها جنود الاحتلال وآلياتهم العسكرية وطائراتهم الحربية مع المدنيين العزل.
وفي هذا الجانب سنجد الكثيرين من الجرحى قد عادوا مرة أخرى بل مرات إلى موقع المواجهة، متجاوزين الآلام التي يشعرون بها؛ وذلك للتعبير عن مشاعر الرغبة في مواصلة الجهاد والصمود أمام آلة القهر الصهيوني المدمرة.
إلا أن آخرين لم يستطيعوا ذلك مع تمنيهم له؛ لأن إصاباتهم أحدثت في أجسادهم إعاقات دائمة أعجزتهم عن النهوض من جديد، فمنهم من قطعت بعض أطرافه، وآخرون فقدوا أبصارهم، وهناك من شلت حركتهم إلى الأبد.
ومن هذه الصور التي يتقطع لها القلب ما يلي:
صخر خلف (21عاماً) من مخيم البريج شابٌ عشق الانتفاضة، وكان من نشطائها البارزين..
أراد ذات يوم أن يتزوج، فعمل بجد، وعانى شقاء العمل في مهنة (البناء)، وكغيره من الشبان المقبلين على الزواج حلم ببيت صغير وزوجة وأولاد؛ ولذلك اختار زوجة طيبة متدينة، حيث قام بخطبتها، وبدأ يعد العدة لحفل الزفاف..
وبعد عقد قرانه، قامت خطيبته بزيارة لأهله، وتناولت معهم طعام الغداء وسط أجواء من السعادة الغامرة، وفي ساعات المساء رافق صخر خطيبته لإيصالها إلى بيت أهلها في مخيم جباليا، وصحب معه ابن عمه يوسف الذي خشي عليه من مخاطر الطريق، وقبل أن تصل بهم السيارة إلى مفترق الشهداء "نتساريم" اضطروا للنزول منها لأنها لا تستطيع العبور بسبب المواجهات العنيفة عند المفترق، وعندما تقدم صخر وابن عمه يوسف إلى الأمام قليلاً ليبحثا عن وسيلة مواصلات أخرى إذا بطائرة حربية إسرائيلية تطلق عليهما قذيفة فتصيبهما بشكل مباشر وبصورة مروعة..
على إثر ذلك نقلا إلى مستشفى الشفاء بغزة، وكانت النتيجة أن يوسف أصيب في رأسه إصابة قاتلة توفي على إثرها بعد أسبوع، وأما صخر فقد حُول إلى مستشفى (إيخلوف) بتل أبيب، وتم هناك بتر ساقيه من فوق مفصل الركبة.
وبالرغم من مصيبته هذه فقد ظل صخر يلهج بذكر الله، ويعبر عن الرضى بما أصابه؛ حيث عرف عنه الإلتزام والصلاح وحب الجهاد، كما كان من أنشط شباب الانتفاضة، وقد تعرض للاعتقال من قبل جنود الإحتلال أكثر من مرة، وكانوا يتركونه بعد ذلك لصغر سنه.
قال صخر واصفاً حالته بأنه ما زال يشعر بآلام حادة في جميع أنحاء جسده ؛ لأن العديد من الشظايا لازالت موجودة في أماكن متعددة فيه، وأشد الآلام التي كان يعاني منها في هذه اللحظات هي في المنطقة التي تم بتر الساقين من عندها.
وقال بنبرة مختنقة متحدثاً عن مستقبله: كنت أحاول أن أعيش حياة طبيعية كباقي البشر، وأن أتزوج وأدخل السرور على والدي، ولكن.. انتهى كل شيء.
ومن الصور التي تدل على الصلابة والتحمل ما حصل لزياد بركة (16عاماً) من دير البلح، والذي تم نقله إلى المملكة العربية السعودية مع أربعة جرحى آخرين لمتابعة علاجه، حيث بترت يده اليمنى، وفقد عينيه الاثنتين نتيجة انفجار جسم مشبوه في المصنع المجاور للموقع الإسرائيلي على مفرق الشهداء (نتساريم).
يقول أحد أقربائه: "إن زياداً من أنشط إخوانه في خوض المواجهات، وإن الذي دفعه للذهاب إلى منطقة نتساريم من الساعة العاشرة صباحاً هو حب الشهادة بالرغم من صغر سنه".
فزياد الذي كان يلقي الحجارة من داخل المصنع مع أربعة شبان آخرين على الموقع الإسرائيلي طار في الهواء فجأة وارتطم بالأرض ثانية في مشهد مأساوي سريع.
وقد حدث الانفجار نتيجة قذيفة موقوتة من نوع (أنيرجا)..
وماذا بعد..؟
بعد هذا العرض لأمثلة من صور البطولة والفداء التي أفرزتها انتفاضة الأقصى نصل إلى حقيقة مهمة في الصراع مع اليهود ينبغي الوقوف عندها وتأملها..
إن الانتفاضة بوجه اليهود جاءت نتيجة تراكمات صقلت الشعب الفلسطيني، ووضحت له الوجهة التي ينبغي أن يسير عليها، وحددت له المسار الذي من خلاله يمكن تحقيق كثير من الأهداف في معادلة الصراع مع الصهاينة المحتلين.
إن عملية السلام التي توهم كثيرون تحقيقها مع العدو الألد احتضرت وماتت بعدما انكشفت على حقيقتها خلال أحداث الانتفاضة الباسلة..
ومن هنا ندرك أهمية القوة وضرورة اللجوء إليها لإحقاق الحق وإبطال الباطل..
وفي هذا الإطار نقف على تحليل للصحفي الإسرائيلي (جدعون ليفي) الذي أشار إلى هذه الحقيقة من خلال مقال تحليلي له نشرته صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، حيث خلص فيه إلى أن إسرائيل علمت العرب أن الطريقة الوحيدة للتفاهم معها هي (لغة القوة).
وفي ثنايا تحليله جاء ما يلي: "..لقد قيل على الدوام في صفوفنا: "إن العرب لا يفهمون إلا القوة وحدها".. ولكن تبين لاحقاً أن القوة هي لغتنا الوحيدة الرسمية، حتى وإن كان القادة الإسرائيليون قد حرصوا على الدوام على تأكيد أن العرب لن يجنوا أي شيء عن طريق القوة.
ولنتذكر على سبيل المثال التصريحات التي أدلى بها وزير الدفاع الإسرائيلي وقتذاك إسحاق رابين في ذروة الانتفاضة من أن الفلسطينيين لن يحققوا شيئاً بالحجارة، والواقع أنه لم يتحقق منذ العصر الحجري كل هذا الإنجاز كالذي حققه الفلسطينيون بالحجارة.
ويتكلم عن مشاركة الفلسطينيين في المنطقة المحتلة عام (1948م)، فيقول: "..ولكن من الذي بوسعه أن يشير إلى طريق آخر مفتوح أمام خمس سكان إسرائيل - فلسطينيي هذه الدولة- بعد (25) عاماً من التمييز والإذلال؟
الآن على الأقل شكلت لجنة للنظر في الأمر، وبعد هبة عنفهم المقبلة والتي ستكون بالتأكيد أشد احتداماً وأكثر إيلاماً، فإن دولة إسرائيل ستتذكر أنه كان يتعين القيام بالمزيد، ومن المؤكد أنه لا يمكن القول إنهم لم يجربوا أولاً طرقاً بعيدة عن العنف، حيث تمتد (25) عاماً من الولاء المثالي والمبالغ فيه تقريباً من جانب عرب إسرائيل والطاعة لدولة ليست حروبها بحروبهم، ولا نشيدها الوطني بنشيدهم، ولا لغتها بلغتهم، ولا عطلاتها بعطلاتهم، وعلى الرغم من هذا كله فإنها تعاملهم على هذا النحو.
الآن هاهم شبابهم يخرجون إلى الشوارع، وينطلقون إلى رحاب العنف، ويعود عليهم ذلك بالفائدة، وهم يعرفون أنهم لن يحصلوا على شيء من دون هذا العنف.
والآن هاهم أيضاً يبرهنون مثلما برهن إخوانهم في غزة والضفة أن إسرائيل القوية هي التي لاتحقق شيئاً عن طريق القوة".
والخلاصة التي نصل إليها هي أن هذه الحقيقة ستؤدي إلى استمرارية الصراع، وتطور أشكاله، وربما امتداده إلى آفاق أخرى لا يتوقعها الكيان الصهيوني، وبالتالي ستكون صور البطولة والشجاعة في هذا الصراع وقوداً دافعاً يحث على مواصلة المواجهة والعمل من أجل تحقيق هدف التحرير النهائي دون كلل.