يبحث الإنسان عن السعادة بحثه عن الضالة الثمينة المدفونة وسط هذا الكون، لأنها الوحيدة التي تغلف القلب بسكينة أبدية لاقلق بعدها، فتجده يتحين الفرص لقنص هذه الضائعة بإتقان وجرأة ومثابرة . فكل تصرفاتنا نابعة من اعتقادنا بأنها الخيار الوحيد إلى تحقيق السعادة، حتى وإن كانت هذه التصرفات جزئيات قد لاتكون ذات أهمية عند البعض، ومع أن مفاهيم السعادة ( معايير السعادة ) تختلف في أنفسنا بحسب القاعدة التربوية الفكرية التي نمتلكها، إلا أن التخطيط لنيل هذه السعادة يحتل نفس المرتبة من الأهمية في جميع النفوس، ولا أتصور أن هناك إنسان لا يبحث عن السعادة ويهرب من التعاسة والشقاء !.
و(معيار السعادة) لم يحصل يوما أن توحد في ضمائر أبناء هذه الأرض، فالحياة مبنية على التعددية والاختلاف- الاختلاف الذي ينتهج عقلية البحث عن الحقيقة فقط - ، نعم قد يتساوى ( معيار السعادة) عند جماعة تتبنى أفكارا مؤطرة وفق قانون ونظام، إلا أن درجاتها تنشطر أيضاً في حلقة المجموعة الواحدة.
فهناك من يرى – مثلاً للتبيان - بأن معيار سعادته هو ( الجاه والمنصب )، فعند عدم حصوله على هذه الوجاهة والقيادة والسلطة فإنه يرى(الأنا) مذلولة ضعيفة مهشمة على الطرقات، ويرى نفسه أتعس من خلق على وجه هذه البسيطة ! فمثل هذا الإنسان لايمكن أن تستقر حياته إلا بنيل ذلك المطلب المادي ! ومفهوم المادة هنا يجرنا للحديث عن المعنى، مما يعني أن معايير السعادة لاتعدو عن هذين المصطلحين ( المادة - المعنى )، وقد أثبتت التجارب عبر التاريخ الإنساني أن السعادة المتحققة من خلال التمسك بالمعنى، هي أضمن وأنجع وأشرف من السعادة الوهمية التي تتحقق من خلال المادة، وأعني بـ (المعنى) هي محصلة القيم الأخلاقية الإنسانية التي تطهر الروح من الأدران والخبائث المشوهة لصورتها، فتسمو بها إلى هيئة شفافة تكون أنقى من قطرات الماء، فكما تغذي بدنك بالطعام الجيد فتكون خلاياه قمة السعادة، فإن غذاء الروح هي كبسولات الصدق والعلم والشجاعة والصبر والوعي لثقافة هذه الحياة .هذا وإن المادة ليست مضمونة الإسعاد في الدنيا وليست ثابتة الديمومة، وهي شقاء في الآخرة أيضا – إن المنبوذ منها هو مايُلهث خلفها بالطرق اللا أخلاقية، أو تلك التي تنغمس فيها انغماساً يفقدك السيطرة على مسؤولياتك !- بعكس المعنى الذي هو سعادة في الدنيا والآخرة . !
والإنسان عندما يجتهد ويبحث لكسب السعادة فإن هناك عدة آلهة تكون حاضرة في وجوده، يؤثر واحد منها فقط في قرارته أثناء ذلك السعي – نعم قد يُشرِك في عبوديته اثنان وهو أجهل العبودية وأظلمه ! - أولها الله سبحانه وتعالى الذي خلق الكون كله بقدرته وحكمته، فالامتثال إلى أمره وتجنب نهيه هو عين السعادة، وثانيها نفسه الأمارة بالسوء، وثالثها الشيطان الذي تعهد بإغوائنا، فإما أن تتاجر في السعادة مع الله كأربح تجارة، أو مع النفس الأمارة بالسوء والشيطان الرجيم، وهما (معسكر التعاسة) الذي يبحث دائما عن إغراقنا كألذ أعدائه وأشدهم، علماً بأنه قد يتحمل مرارة إيهامنا أحيانا ببعض الثمار النظرة في شكلها القذرة في مضمونها ! من أجل فقط أن نكون عبيدا جهلاء ضعافا بين إبرِ كماشته، فنتعس في الدنيا والآخرة .
ولذا أقول أننا في زمن مادي نحتاج فيه إلى وقفة معنوية صريحة وجريئة مع الذات، نناقشها وإن كلفنا ذلك مخالفة أهوائنا الخبيثة، نحن اليوم في حاجة إلى تصحيح فكري سلوكي لمعايير السعادة، وذلك من أجل أن نصل فعلا إلى السعادة الحقيقية التي أرادها الله عز وجل لنا .