أولاً : كيف نحمي مركز التحكم ( العقل ) من الغفلة :
الإنسان، هذا المخلوق العجيب الذي خلقه الله سبحانه وتعالى خلقاً متقناً كآية من آياتِ قدرته وحكمته، قد زوده بالعقل كأفضل جهاز يمتاز به عن باقي الكائنات الحية [ الحيوان، والنبات – وإن كانت تعقل في حدود مايبقيها ]، ويمتاز عقل الإنسان فيما أرى بخصال إعجازية تتوافر عند جميع البشرية، وهيّ تتابعاً :
1. الحماية الذاتية للإنسان.
2. مركزية القيادة .
3. يمتلك قابلية التطوّر .
أ. الحماية الذاتية : يمتلك الإنسان بما جُبل عليه عقله من الفطرة السليمة التي أودعها الله فيه، القدرة على التمييز بين الفاسد والصّالح، فهو الحسام القاطع - كما عبّرت عنه الأحاديث الشريفة - الذي يخرج الإنسان من حالة الوهم إلى الحقيقة، ومن الشّك إلى اليقين، فهو الواقع الذي يقابل الخيال، والعلم الذي يقابل الجهل، والوضوح الذي يقابل الضبابية، فأي موقف أو قولٍ أو خاطرة تطرأ على الإنسان، عليه أن يعرضها على عقله، فيحكمه فيها، ثمّ يدقق فيها، ويبحث عن حلّها، ثمّ النتيجة التي سيصل إليها، سيجدها نتيجة تتوافق والنظرة التي تدعو إليها الشريعة، بشرط أن يقف في عرضه عند الحدود التي تسمح فيها شريعته .
ب. مركزية القيادة : وأعني بذلك أنّ العقل البشري هو الإدارة والإرادة الفعلية ( غرفة التّحكم ) في مملكة الإنسان، وأن جميع السلوكيات والتصرّفات والمواقف التي نمارسها يومياً، هيّ نتيجة تحكّم هذا الموجود فينا، وعليه فإنّ صلاح القيادة يعني صلاح السلوكيات والمواقف .
ج. القابلية في التطوّر : إنّ من أهمّ مايجب أن نضعه أمامنا هو أنّ هذا العقل – غرفة القيادة – لديه القابلية - في التأثر والتأثير - في الإرتقاء والتطوّر بما يخدم الإنسان، وأنّ تطوره لايقف عند حدود ثابتة، بل هو بمقدار مانجتهد ونبحث ونتعلّم ونفهم .
نقطة : لكلّ غرفة قيادة قبطان يحرّكها، فما هي طبيعة القبطان الذي يحرّك غرفة العقل ( control room ) ؟
إنّ أهم محرّك لهذه الغرفة – العقل – هي الأفكار، وما تصرفاتنا وسلوكياتنا التي نمارسها سوى نتيجة لما نمتلك من أفكار، فإن كانت أفكارنا طيبة وهادفة وراقية، فإن سلوكياتنا ومواقفنا ستكون كذلك، وإن كانت أفكارنا رديئة وهزيلة، فإن تحرّكاتنا ستكون كذلك، والذكي من زوّد مركز قيادته بالأفكار الواعية الهادفة والإيجابية، لأنها ستنعكس بشكل تلقائي على شخصيته.
همسة : ينبغي أن نحافظ على هذا المقر – العقل – وهذه الغرفة عمّا قد يفسدها، كترتيب ملفات أفكارنا ترتيباً منتظماً، فنتخلّص من الأفكار الهابطة، ونبقي على الأفكار الرفيعة، وأن نجعل الأفكار التي في عقولنا كالورود الجميلة في البستان، وأن لانجعل فيها الأفكار السوداوية المتعفنة، والتي من شئنها أن تحرق أجهزة التحكّم فينا، تماماً كما نفعل بمكاتبنا وغرفنا الواقعية في الحياة .
بعد كلّ هذا الطّرح، يبادرنا سؤال هام جداً ! وهو : من أين نأخذ أفكارنا، فهل نقرأ لكلّ كاتب، وهل نستمع لكل متحدث، وهل نتفاعل مع أي فكرة ؟ بالطبع لا، إنّما هناك شخصيات عالمة وفاهمة تطرح مناهجاً واضحة لحياة واعية وسليمة، وهم أهل البيت (ع) الذين يطرحون مايرضي الله عز وجل، والذي بدوره يتوافق ومصلحة الإنسان، كذلك الصحابة والمخلصين، والعلماء والمبدعين الذين عرفتهم الإنسانية، فهم من يجب أن نستقي منهم أفكارنا .
ثانيا : كيف نهذّب أعيننا :
العينُ .. حارسةُ القلب، وسرّه المفضوح، وآية العقلِ، ونافذته المفكّرة، إنْ تهذّبتْ رأيتَ فيضها، وإنْ عَبَثَتْ أضرّكَ خبثها، فإياك وشراسةُ النّظرة ! قَاتِلها إنِ اسْطَعْتَ، فإنّ علامةَ نَصْرِها الحسرةَ، والتعطش البهيم لما سرَقْتْ !
فأدعوكَ، إلجام هيجانها، وإخناع فلتاتها، وترويض فراستها، وملازمة البرّ، وجبرها الإعتبار، فإنّه يوشكُ للإنسانِ - إذا تمسّك بذلكَ - أنْ يعرفَ ماحولهُ حقيقةً لآ مادّة !
إنّ النّظرة والنّظر – الوظيفة التي تؤديها العين- هي من أهم السلوكيات التي نمارسها يومياً، وبما أنّها كذلك فيجب أن نعتني بها اهتماماً يؤهلها لتأدية مسؤوليتها بشكل إيجابي، فهيّ تمثل جزءً كبيراً من أخلاقياتنا اليومية، تماماً كما هو دور (اللسان) عند الإنسان، إذ نستطيع من خلالها أن نخلق مجتمعاً متآلفاً مترابطاً متعاوناً وحضارة راقية تعزز أدوارنا وتفعّل مواهبنا في هذه الحياة، وهيّ إذ تتحرّك وتنظر في الموجودات التي تحيط بها، فإنّها تتحرّك على أساسِ ما استقبله ذلك العقل من أفكار، فكيف يمكن إذاً أن نجعلها تتشبع تأديباً وهدوءاً، ثم نخرج أسرارها ؟!
قبل أن نخوض في المواطنِ التي يجب أن نهذّب أعيننا فيها، علينا أن نعرفَ التّالي :
أ. أننا عندما نأدب حركات أعيننا فإننا نؤدّي واجباً دينياً أخلاقياً .
ب. أنّنا عندما نهذبها فإنّ ذلك فعل محمود تحبذه جميع الإنسانية .
ت. أن المستفيد الأول من تأديبها هو الإنسان نفسه، كما أنه سيكون المتضرر الأول عند إهمالها .
الآن وبعد كلّ هذا علينا أن نعرف المواضع التي يجب أن نهذب فيها أعيننا :
أ.النظر إلى القبيح المذموم : إذ يجب إبعاد النّظر عنْ كلّ قبيح مذموم عن طريق غضّ البصر سريعاً، فالمشاهد التي نراها ترتسم صورها في أذهاننا، وكثيراً ما يترتب على ذلك آثار سلوكية، فالمشاهد القبيحة مثلاً تقسي القلب، وتفسد الذوق، وتأخذ بالإنسان إلى الهاوية، بعكس المشاهد الجميلة، التي تطبع في نفسية مشاهدها ارتياحاً إيجابياً يحرّكه باتجاه النّجاح والتميز .
ب. فضول النّظر : فكما أننا نبتعد عن فضول الكلام، وهو الكلام الزائد في غير حاجة، كذلك علينا الإبتعاد عن النّظر الزائد، والذي لايعود على الإنسان بالنفع فضلاً عن أنه قد يكسبه ضرراً !
ت. النظرات اللطيفة والهادفة : كالنّظر إلى الوالدين برأفة، والنّظر إلى كبير السّن بحب، والنّظر إلى الطفل الصغير بحنان، وكثرة النّظر في القرآن، واستدامة النّظر في الكعبة، والأشجار والخضرة، والحياة البرّية، وعالم البحار، والفضاء..الخ، وهي التي يمكنها أن تفتّح ذهنك على عالم أوسع .
ث. آداب النّظر أثناء التحدّث والتواصل مع الآخرين : إنّ مخاطبة الآخرين أو الإستماع إليهم يحتاج إلى آداب ومهارات أخلاقية ضرورية، تعطي للتواصل فاعلية وإيجابية أفضل مايمكن أن تصل إليه،
فأهم مايجب على المتحدِّث أن يفعله هو أن يوزع نظراته بالتساوي على جلسائه، لكي لايهضم أحداً فيهم، فليس من الأخلاق أن يتحدّث أحدهم إلى جماعة وهو ينظر إلى فرد واحد، كما أنّه يجب على المتحدِّث أن ينظر في عيون مخاطبيه، وليس من الأخلاق أيضاً أن يتحدّث وهو معرضٌ عنهم بعينيه ! فهذا دليل السّفه والجهل .
أما المستمع فعليه النظر إلى محدِّثه بكلّ إتقان، بعقله ومشاعره، فلايستمع وهو شائح بنظراته عنه، لأنه سيعكس برسائل كثيرة إلى المتحدِّث منها :
أولاً : أنه سيعتبرك شخصية ضعيفة، حمقاء، وهذا مالا نرضاه طبعاً لأنفسنا، فالله قد خلقنا لنكون أقوياء .
ثانياً : سيظن بأن كلامه غير مهم، وأنه شخص تافه لايجلب إلاّ حديثاً تافهاً، مما يؤدي به لقطع الحديث وعدم مخاطبتك مستقبلاً .
فكل مافي الأمر أنه يجب أن ننظر بكلّ رفق وهدوء في عيون الآخرين، وأن نديرها إن دعت الحاجة بكلّ عناية وذكاء .
خلاصة القول : علينا أن نؤدب ونهذب نظراتنا، فهو أمر يحبه الله ويحبه النّاس، ويصلح شخصياتنا ونفسياتنا، والله تعالى يوفق عبده إن رأى منه سعياً لإصلاح نفسه، وهو المستعان على كلّ ذلك، فكلّ أمر مستصعب في بداياته ولكنّه سهل في وسطه ونهاياته .