عرضت الكاتبة في الحلقة الماضية صوراً عدة من بطولات التضحية التي قدمها المسلمون فداءً لبيت المقدس، وحماية له من المؤامرات اليهودية، ولم يقتصر ذلك على من كانوا في فلسطين بل وفد بعضهم من خارجها كما في قصة المجاهدين الألماني والمغربي، وفي هذه الحلقة نستكمل بقية الموضوع بذكر صور من الإباء والصمود.
الجندي المسلم
مقاتلون من نوع آخر..!!
لم يواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي من قبل مشكلة مثل تلك التي تمثلت في ظهور جيل مقاتل شرس لا يأبه بالأهوال، ولا يهتم بما أشيع عن القوة الإسرائيلية التي لا تقهر، ولا يبالي بالجيوش المدججة التي أعدت لقهره وسحقه، ولا يلتفت إلى تلك الدعوات الجبانة للتعقل واللجوء إلى البديل الأسلم - بنظرهم - ألا وهو التفاوض تحت شعار السلام.. بل يتحدى بصدور شبابه المتعطش للشهادة، وسواعد أطفاله التي لا تكل عن رجم الحجارة والزجاجات الحارقة، وإرادة وعناد شيوخه في دعم المسيرة ودفعها بقوة نحو الأتون، ودعوات وابتهالات نسائه وصبرهن على البلايا والنكبات، وفرحهن باستشهاد الآباء والأبناء والإخوة في معركة المجد والعزة، يتحدى بكل هؤلاء قذائف المدفعية وصواريخ الراجمات والطائرات، ولهب الألغام والقذائف والمتفجرات، مؤثراً الآخرة على الدنيا، ومفضلاً الموت بكرامة ورفعة على الحياة بذل ومهانة.
لم يكن مستغرباً ظهور هذا الجيل الذي يُعد بحق فاجعةً كبرى لليهود، وصاعقة قوضت آمالهم، وحطمت شعورهم بالاستقرار والطمأنينة، وذلك بحكم اعتقادهم بل إيمانهم الجازم بأن فناءهم وزوال دولتهم سيكون في آخر الزمان على أيدي أولي البأس الذين ذكرهم الله تعالى في سورة سميت باسمهم (سورة بني إسرائيل: الإسراء)؛ حيث إنها حقيقة جحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم، وربما يلاحظ القارئ ذلك جلياً واضحاً عند الوقوف على تصريحات زعمائهم وكبار مفكريهم التي امتلأت بها صحفهم في السنوات الأخيرة.
ففي هذا الإطار استضاف راديو تل أبيب يوم الأحد 21-أكتوبر 2000م عدداً من مفكري وكتاب اليهود الكبار في ندوة عن الانتفاضة، وكان من بينهم (بنتسيون نتنياهو) والد الرئيس السابق، والذي قال معلقاً على مجريات أحداث الانتفاضة: "إذا تركنا السيف فسنذبح كما حدث يوماً، انظروا إلى الفتية الفلسطينيين وهم يواجهون بصدورهم الموت، هؤلاء يريدوننا أن نغيب عن خارطة الشرق الأوسط، لماذا لا يجرؤ منافقو اليسار على الاعتراف أن كل رهاناتهم على السلام مع العرب قد ثبت أنها لاتستند إلى الواقع، ها هو السلام الذي بشرونا به ينهار في لحظة عين، والآن يأتي بعضهم ويقر بخطئه...".
وهذا الجيل مهد له أبطال المقاومة الذين زلزلوا الكيان الإسرائيلي بعملياتهم النوعية، وحيروا الأجهزة الأمنية بجرأتهم وشجاعتهم في المواجهة، فهذا هو الجنرال الإسرائيلي شموئيل غورين القائد العسكري السابق للضفة الغربية يتكلم عن أحد المجاهدين الأبطال وقد تملكته الحيرة والدهشة لشجاعته فيقول: "لم يكن حامد يغمور هو الوحيد الذي رفض الاستسلام بالرغم من أنه يعلم أنه لن يخرج من البيت حياً، كان جميع مقاتلي الجناح العسكري لحركة حماس يفضلون المقاومة حتى الموت على الاستسلام، إنه لأمر غريب وعجيب أن يبدي مقاتلو حماس هذه الإرادة القوية والعناد الكبير عندما يحاصرون بالدبابات والجنود، وتحلق الطائرات فوق رؤوسهم، ومع ذلك لايستسلمون، وإنه حقاً لشيءٌ يثير الإعجاب أن يقاوم مقاتل، ويصمد لأكثر من (12) ساعة في مواجهة مئات الجنود المزودين بأحدث الأسلحة والمعدات ".
ويضيف: "لقد تحول هؤلاء المقاتلون إلى أسطورة في نظر قادة الجيش وجهاز الشاباك، بل لقد اهتزت المعنويات في صفوف الجنود لليأس من القضاء على هؤلاء؛ إذ إن مهمة البحث عما يقارب عشرين مطارداً من حماس تتطلب أكثر من 3000 جندي بالإضافة إلى المجهودات التي يستثمرها جهاز المخابرات وعملاؤه في جمع المعلومات الاستخبارية عنهم" (1).
ومن الأمثلة على ذلك ما قام به المجاهد خليل أبو علبة (35 عاماً) الذي قاد باصاً في مستوطنة (حيلون) بالقرب من تل أبيب، وهاجم به تجمعاً للجنود عند إحدى المحطات، مما أدى إلى مقتل (10) من الجنود، وجرح (20) آخرين.
ولدى محاكمته يوم 16-3-2001م وقف بإباء وأعلن أنه غير نادمٍ على دهس الصهاينة المحتلين.
وأضاف: "إنه أراد أن يقتص لموت أكثر من ثلاثمائة فلسطيني منذ بدء الانتفاضة ضد الإسرائيليين".
وصرح للصحفيين في المحكمة بأنه غير آسف على فعلته، بل يفتخر بها؛ لأن الصهاينة يقتلون الفلسطينيين كل يوم، هذا وقد تم الحكم عليه بالسجن لمدة 220 سنة.
ومن الأمثلة أيضاً: عملية تل أبيب التي وقعت يوم الأحد 21-5-1422هـ بالقرب من وزارة الدفاع الصهيونية في تل أبيب، حيث أثارت قلقاً كبيراً لدى الأوساط الأمنية والاستخبارية الصهيونية، وذلك حول كيفية تمكّن منفذ العملية "علي الجولاني" من الوصول إلى وسط تل أبيب وقرب مقر وزارة الدفاع, وإطلاق النار على مجموعة من العسكريين؛ حيث نجح في قتل اثنين وإصابة عشرة جنود ومستوطن واحد بجروح مختلفة بالرغم من الانتشار المكثف لقوات الأمن والشرطة والجيش الصهيوني في عموم الدولة العبرية، لا سيما في تل أبيب والقدس العربية المحتلة.
وفي أعقاب هذه العملية أكد المفتش العام للشرطة الصهيونية الجنرال (شلومو اهرونشكي) على وجوب تشديد الحراسة قرب معسكرات الجيش، وفي الأماكن التي يكون فيها جنود، كون هذه الأماكن تعد هدفاً لمنفذي العمليات الفلسطينيين.